في آخر يوم من شعبان اجتمع في صلاة الظهر عدد كبير من المصلين على غير المعتاد , ولا تدري ما الذي جمع هذا العدد الذي كاد أن يملأ المسجد بصفوفه , على حين أنه في سابق الأيام كان عدد الصفوف لا يتجاوز الثلاثة على أكثر تقدير , ثم إن هناك شيئا غير طبيعي وغير منظور يروح ويغدو في جنبات المسجد يرفرف على رؤوس المصلين وكأنه ينثر عليهم قلائد الريحان وينفحهم بأريج الزهر الفواح .
وما إن سلم الإمام حتى أخذ المصلون يصافح بعضهم بعضا بحرارة مع ابتسامة خفيفة على الوجوه وكأنما هي رسالة من القلوب إلى القلوب احتوت على كلمات رقيقة .. رمضان كريم ..الله أكرم ...كل سنة وأنت طيب ...وأنت طيب ...ياراجل ياطيب ...
إذن هذا التجمع أشبه ما يكون بتظاهرة روحية جاءت تستقبل شهر رمضان في موطنه الطبيعي ..الجامع ... أليس بشهر العبادة والجود والإحسان والخيرات والبركات ؟ ...وهل سمع الناس عن هذه المعاني إلا من الجامع ؟ ..
وبعد أن استغرق الجمع في ختم الصلاة تسبيحا وتحميدا وتكبيرا وتهليلا أدوا صلاة السنة ثم انصرف من أراد وبقي من أراد وكان من بقي قريبا في العدد ممن انصرف , وارتأي كل فريق منهم أن ينزل تحت مروحة من المراوح الهفهافة يكتال ريحها ويستحم بهوائها البارد في هذا الجو الحار وأخذ فريق منهم يتجاذبون أطراف الحديث حول الصيام ورمضان والزمن الذي استدار حتى عاد برمضان إلى قلب الصيف .
قال كبيرهم : لقد صمت هذا الشهر أول ما صمت في حَمَّارة القيظ وقد ارتفعت الشمس وانتفخ النهار ونحن في الحقل نجمع القطن وكان البطل منا من يستطيع مواصلة الصيام إلى المغرب وقد كان بعضنا يبل منديله بالماء من الترعة ثم يلفه حول رقبته لعله يبل حلقه الناشف كالأرض الشراقي ..والله كانت أيام ...
وقال صاحبه : أتذكر عندما كنا نذهب قبل المغرب إلى دار الحاج أبو صيام لنشتري منه قطعة ثلج نبرد بها الماء ؟
قال فتي صغير : ألم يكن عندكم ثلاجات .
تضاحكوا وقال أحدهم يا بني كان عمك الحاج أبو صيام يشتري لوحين من الثلج من المدينة ويأتي بهما إلى قريتنا فنكاد نتقاتل عليهما لأن غالبنا في هذا الوقت لم يكن عنده ثلاجة ولا غسالة ولا تليفزيون ملون ولا كمبيوتر ولا انترنت ولا فضائيات ولا موبايلات ولا ....يعني يابني باختصار كانت الدنيا ابيض واسود ..
تعالت الأصوات بالضحك وكانوا قريبين من حجرة الشيخ الذي ما إن سمع الأصوات العالية حتى خرج ولكن بابتسامة خفيفة وفي الوقت نفسه كأنه يلومهم ثم قال : خيرا يا جماعة ما الخبر ؟
قال أحدهم : كل سنة وانت طيب يا مولانا .. والله جئت في وقتك ..أنا كان عندي سؤال ؟
أدرك الشيخ أن الرجل الذكي يريد أن يحول مسار الحديث ليخرجوا من ورطة رفع الأصوات بالضحك في المسجد خصوصا وأن هناك من فاتته الصلاة وجاء متأخرا ليؤديها , ولكن الشيخ قال في نفسه : والله مخرج جميل لي ولهم .
ثم جلس إليهم فاعتدل المضطجع منهم على جنبه وجلس من كان راقدا على بطنه وقام من كان منطرحا على ظهره مادا أطرافه الأربع وكأنما يريد أن يستولي على هواء المروحة كله لنفسه !! اعتدلوا جميعا فقال الشيخ خيرا يا أخي ما السؤال ؟
قال الرجل : يا مولانا ..كما تعرف اليوم هو الثلاثين من شعبان وغدا إن شاء الله رمضان فمتى أنوي الصيام ؟ وماذا أقول في النية ؟
قال الشيخ هذا سؤال جميل ومهم جدا أتعرفون لماذا هو مهم ؟
لأنه يتعلق بالنية والنية نصف الصوم لأن أركان الصيام عبارة عن شيئين أولهما النية والثاني هو الإمساك عن المفطرات .
وطبعا النية كما تعرفون هي أساس كل عمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )
وبدون النية لا يصح العمل فمثلا لو دخل شخص الآن على هذه الميضأة وغسل وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه وانصرف هل يكون متوضئا ؟
طبعا لا ؛ لأنه لم ينو الوضوء والوضوء عبادة لا تصح إلا بالنية , وإنما هو نظف جسمه فقط وهذه عادة .
صلوا على رسول الله .. نرجع لنية الصوم في رمضان ..
وهكذا صيام رمضان يحتاج إلى نية لأنه عبادة وقد روى الإمام أحمد بن حنبل عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) ومعنى يجمع من الإجماع وهو إحكام النية والعزم .
ومعنى هذا أنه لابد في الصوم من نية .
قال رجل في آخر المجلس : طيب يا فضيلة الشيخ : يعنى لازم قبل الفجر بالضبط ؟
قال الشيخ : كلمة قبل الفجر تدل على الليل كله وقد قال علماؤنا : ( وتصح في أي جزء من أجزاء الليل ... فمن تسحر بالليل قاصدا الصيام تقربا إلى الله بهذا الإمساك فهو ناو , ومن عزم على الكف عن المفطرات أثناء النهار مخلصا لله فهو ناو كذلك وإن لم يتسحر )
قال أحد الشباب بصوت ممتلئ ثقة وغرورا : ولكن يا مولانا من هم هؤلاء العلماء وما دليلهم على ذلك ؟
التفت إليه الشيخ وقال : أتعرف ..لقد كنت أنا مريضا البارحة وذهبت إلى الطبيب فأعطاني ( روشته ) فقلت : يا دكتور ما هذا الدواء المكتوب فيها ومن الذي اخترعه ؟
أتدري ماذا قال لي الطبيب ؟
قال الجميع : ماذا ؟
قال الشيخ : قال لي : هل أنت طبيب متخصص ؟
قلت :لا
قال : أعالم كيمياء .
قلت : لا .
قال : لو بعث الله لك أبقراط من مرقده ما استطاع أن يفهمك هذه المسألة فخذ الدواء وتناوله واسأل الله الشفاء .
ضحك الحضور وقال أحدهم : دعك يامولانا من مداعبة أخيك الذي سألك عن العالم والدليل فهو يريد أن يداعبك فقط خاصة وأنك أوحشته جدا بعد غيبته ثلاث سنين في السعودية .... المهم يا مولانا هناك سؤال آخر ..
ابتسم الشيخ وقال تفضل :
قال الرجل : طبعا أنت عارف أمي أطال الله عمرها بلغت من العمر ثمان وثمانين سنة وقد وهن عظمها وضعفت بعد قوة وتقريبا تتناول من أنواع الدواء أكثر مما تناول من الغذاء ومع ذلك هي مصرة على الصيام وتنهرنا وتغضب إن أشرنا عليها أن تفطر . فما الحل ؟
قال الشيخ ادعوا الله لها جميعا بالشفاء والعافية .. فأمهاتنا وآباؤنا هم سبب رحمة الله وتلطفه بنا ووجودهم بيننا بركة وأي بركة لا سيما وأنه قد ورد في الأثر : بضعفائكم تنصرون وترزقون وتؤجرون .
يا أخي الكريم : عليك أن تخبر أمنا الكريمة أن الله تعالى لا يحب من يعذب نفسه فلا يقبل رخصة الله وتحننه عليه ولطفه به فالله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه , وخالتنا ليس عليها صيام ولا يجب عليها وإنما علىها الفدية .
قال الرجل : وكيف ذلك ؟
قال الشيخ : إن الله تعالى يقول : (أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (البقرة:184) هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا .
قال أحد الحاضرين ؟ وما مقدار ما تخرجه ؟
قال الشيخ : تقدر ثمن وجبة إفطار من متوسط ما تأكل ثم تخرجه عن كل يوم . والمسألة نسبية تختلف باختلاف سعة الرزق وضيقه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
ومثل خالتنا : المريض مرضا مزمنا نسأل الله الشفاء للجميع ، والحامل والمرضع .
قال أحدهم : طيب يا سيدنا أنا عندي واحد قريبي شباب بطول (ضلفة ) الباب وما شاء الله ربنا أنعم عليه بالعافية ومع ذلك يفطر ...
قاطعه الشيخ قائلا بصوت عال : وامصيبتاه !!! لقد قال ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس ، - : « الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام من ترك منهن واحدة فهو بها كافر حلال الدم : شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة المكتوبة وصوم رمضان »
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخصها الله لم يقض عنه صيام الدهر كله وإن صامه )
وكان السائل يشير بيده للشيخ أن مهلا مهلا ، فلما انتهى الشيخ قال له ماذا تريد ؟
قال الرجل : حلمك علي يا مولانا ..هذا الولد ابن اختي وهو شغال في المعمار مع مقاول كبير وطول النهار طالع نازل بالقصعة على كتفه ربنا يعينه ولما عاتبته في الإفطار قال ياخال أنا جربت الصيام وأنا شغال وكنت سأسقط من الدور الثالث من الدوخة والجوع والعطش الشديد فماذا أفعل ؟.
قال الشيخ : هنا الوضع مختلف ..وقد قال العلماء : (( يرخص الفطر للشيخ الكبير , والمرأة العجوز , والمريض الذي لا يرجى برؤه , وأصحاب الأعمال الشاقة الذين لا يجدون متسعا من الرزق غير ما يزاولونه من أعمال وهؤلاء جميعا يرخص لهم في الفطر إذا كان الصيام يجهدهم ويشق عليهم مشقة شديدة في جميع فصول السنة وعليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكينا )).
وابن اختك منهم فإذا كان عمله الشاق هذا مستمرا طوال السنة بحيث لا يجد وقتا يقضي فيه صيامه فعليه أن يطعم عن كل يوم من رمضان مسكينا من أوسط ما يطعم .
قال السائل : سبحانك يارب ما أرحمك وما ألطفك بنا .
وسكت الجميع ليستمعوا إلى صوت كنقيق الضفدع في ليل الصيف يرتفع شيئا فشيئا ونظروا فإذا الحاج عباس أبو شنب قد رفع( القلة ) وأخذ ( يمزمز) بمزاج عال وهو واقف إلى جوار شباك من شبابيك المسجد , فلما انتهى .. نظر إليهم ضاحكا وهو يقول سلام عليكم يا اولاد كل سنة وانتم طيبين ..لا تستغربوا من مزمزتي في القلة فغدا لناظره قريب ثم نظر إليها بأسف وقال ... والله هتوحشيني ...
ضحك الشيخ وقال والله ياحاج عباس ذكرتني بقول الشاعر :
إذا العشرون من شعبان ولت
فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار
فقد ضاق الزمان عن الصغار .
وأردف الشيخ ..سبحان الله ما أسرع الوقت قوموا فاستعدوا لصلاة العصر ....