ألتمس من القاريء الكريم الصبر على القراءة حتى النهاية حبا في الرسول صلى الله عليه وسلم
من بداهات العلم أن نرجع إلى المصادر الأولى إذا أردنا المعرفة الأصيلة عن موضوع ما , ويلاحظ أن بعض المتحدثين في مواقف الوعظ يغفلون هذه المنهجية العلمية في كثير من أحاديثهم , فلا يفيدون الناس مستمعيهم بشيء , وعلى سبيل المثال : تذهب لتشييع جنازة فتجلس في المسجد مبكرا لتسمع الشيخ يتحدث عن ما ينتظر الموتى من أهوال القبور وما ستصير إليه أجسادهم بعد دفنهم من تحلل وتعفن وما يفعله الدود بهذه الأجسام التي كانت وكانت , يقول هذا دون مراعاة لشعور أبناء المتوفى وأقاربه الجالسين وهذه ليست لباقة من هذا المتحدث , وهو لم يقع في هذه الأخطاء إلا لأنه يفتقد منهجية العلم المنضبطة ولو سار عليها لرجع إلى المصدر الأول وهو القرآن الكريم واستخرج منه ما يناسب المقام ففي القرآن الكريم عشرات السور المكية التي تتحدث عن الموت والبعث والجزاء وتربط ذلك بوجوب الاستعداد له بالعمل الصالح والتخلص من المظالم ولو كلف أخونا الواعظ نفسه بمعرفة تفسير سورة واحدة كالواقعة مثلا ثم يحدثنا عن تفاصيلها في مثل هذا الموقف لأفادنا وأثرانا ولم يتحير فيما يقول ولم ينظر يمينا وشمالا ليجد من زملائه من ينقذه من معاناة الفراغ الذهني والوعظي , فالقرآن كنز لا يفني إضافة إلى كونه المصدر الأول الذي يجب أن تتجه إليه الأنظار عند للرغبة في الحديث عن أي موضوع يخص الإسلام الحنيف .
كانت هذه مقدمة لا بد منها بين يدي هذا الموضوع المطروح أمام القاريء الكريم ؛ حيث إننا نعايش مناسبة عزيزة على المسلمين , هي مناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف ، ومن الواجب أن نفتح المصحف الشريف لنبحث فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تحدث عنه ربه عز وجل فهذه الصورة القرآنية أصدق الصور وأوفاها وأعظمها يليها ما روته كتب السنن والسير والخصائص النبوية .
وبالطبع لن يستطيع من يكتب هذه المقالة المتعجلة أن يجمع كل ما في القرآن الكريم عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث يحتاج ذلك لمؤلف خاص ولكن ما لا يؤخذ كله لا يترك كله , وذِكْرُ بعض الآيات المتعلقة بالموضوع يعتبر إشارة مرور إلى باقيها لمن يرغب في السير إلى نهاية الطريق .
أولا : العمق التاريخي للنبوة المحمدية .
هذا العمق التاريخي للنبوة المحمدية ضارب بجذوره في أعمق أعماق تاريخ البشرية , فالله تعالى لم يبعث نبيا إلا أخذ عليه العهد إن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حيٌّ أن يؤمن به وأن ينصره قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81) .
يلي هذا العهد العام المبشرات الخاصة للرسل فها هو ذا أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل يدعوان الله تعالى أن يهب أهل هذه البقعة ( مكة ) رسولا منهم ينشر فيهم العلم ويخرجهم من ظلام الجهل قال تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (سورة البقرة ) . وتواصل التوراة المنزلة على نبي الله موسى عليه السلام والإنجيل المنزل على نبي الله عيسى عليه السلام حمل لواء البشارة بالحبيب صلى الله عليه وسلم قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (لأعراف:157)
كما أن نبي الله عيسى عليه السلام قد بشر بني إسرائيل خاصة بالنور المحمدي قال تعالى : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (الصف:6) ويجد القاريء الكريم دلالات ذلك كله في السيرة النبوية وكتب التاريخ والخصائص المحمدية ولولا الالتزام بما بدأ به المقال من الاقتصار على آيات القرآن لذكرت الكثير والكثير من هذه الأمثلة , ولعل في تركها فرصة لمن يريد أن يكتب شيئا في حب حبيبه صلى الله عليه وسلم .
هذا العمق التاريخي للنبوة المحمدية ليس هينا بل هو عظيم لأنه يتعلق بعقيدة المسلم , حيث إن المسلم لا يفرق بين أحد من رسل الله ويعتقد أنهم كلهم مسلمون مرسلون بدين واحد هو الإسلام من رب واحد هو الله جل جلاله , فليس إبراهيم عليه السلام جد اليهود المنحرفين عن صراط الله المستقيم المكذبين بنبوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه أبو الأنبياء ونبي المسلمين وليس موسى عليه السلام نبيا لمن حرفوا التوراة وجحدوا بما فيها من البشارة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه نبي المسلمين في عهده ومن بعده وقد بشر بالنبوة الخاتمة وسيدنا عيسى عليه السلام ليس نبيا لمن ادعوا أنه ابن الله بل ادعوا أنه الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولكنه هو نبي للمسلمين بشر بـ ( أحمــد صلى الله عليه وسلم ) الذي يجحده من ألهوا عبد الله ورسوله عيسى ابن مريم البتول الطاهرة عليهما السلام .
ثانيا : أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم .
من الآيات الجامعة في ذلك قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) سأل سعيد بن هشام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت : كان خلقه القرآن . تفسير الطبري .
ومن هذه الآيات قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف:199) قال الإمامان القرطبي والنسفي رضي الله عنهما قال عليه الصلاة والسلام أدبني ربي تأديبا حسنا إذ قال خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فلما قبلت ذلك منه قال (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .
أما معنى العفو وكيف ظهر في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ومعاملته مع الناس وحاجتنا إليه الآن , وأما معنى العرف وكيف ظهر في أخلاقه صلى الله عليه وسلم وحاجتنا الشديدة إليه الآن , وأما معنى الإعراض عن الجاهلين وصوره في السيرة المحمدية وحاجتنا إليه الآن , فهذه كنوز عظيمة تحتاج لم يفتش عنها في كتب التفسير والسير ويتعب نفسه قليلا ليفيد الناس في كلامه عن المولد النبوي الشريف بدلا من الأحاديث المكررة التي حفظها الناس .
وعلى المنهج نفسه يمكن البحث في الآيات الأخرى كقوله تعالى : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128) وقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:107) ترى ما القيمة العظيمة التي تضمنتها هذه الآية الكريمة في مجتمع مسلم فقد كثيرا من الرحمة ومجتمع عالمي خال من الرحمة مكتظ بالقسوة والغلظة على الضعفاء والفقراء على المستوى الدَّوْلي , ألا يحتاج هؤلاء وأولئك أن يتتلمذوا على نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم .
هذه ملامح من صورة النبي صلى الله عليه وسلم كما جاءت في القرآن الكريم نبي على خلق عظيم نبي يعز عليه أن يشق على المؤمنين نبي حريص على هداية الناس نبي رؤوف نبي رحيم وهو رحمة للعالمين بما تتضمنه الكلمة من شمول لبني آدم مسلمهم وكافرهم وشمول عالم الحيوان وعالم الجن والعوالم التي لا نعلمها فالعالمون مرحومون بهذا النبي الرحيم صلى الله عليه وسلم .
وبعـــــد :
فهناك الكثير من الآيات التي تستكمل ملامح الصورة المحمدية مثل الآيات التي تتحدث عن وجوب طاعته وكونها من طاعة الله والآيات التي تتحدث عن وجوب الرضا بحكمه لا التسليم له فقط مبينة أنه من دلائل الإيمان والآيات التي تبين وظيفته الدعوية فهو نبي مكلف من الله بالبلاغ الأخير لأهل الأرض والآيات التي تتحدث عن بشريته ودلالتها ووظيفتها في الدعوة ولكن القاريء غالبا ما يمل من طول الحديث المكتوب كما يمل من طول الحديث المسموع .
أسأل الله أن أكون قد فتحت بابا قرآنيا يفيد المسلمين في الحديث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم , كما أسأله تعالى أن يزيدنا حبا لنبينا وقبل أن أختم أذكر عبارة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله ختم بها كتابه القيم : فقه السيرة . قال :
( إنك لن تفقه السيرة حقا إلا إذا درست القرآن الكريم والسنة المطهرة وبقدر ما تنال من ذلك تكون صلتك بنبي الإسلام ) .