بداية أتوجه بخالص الشكر والتقدير إلى أخي الفاضل الشيخ يسري على حسن اختياره للموضوع وكاتبه المرحوم الدكتور نشأت ضيف رحمه الله .
لقد قرأت الموضوع بعناية فوجدت مقالا ثمينا وفكرا سديدا ليس بمستغرب على أستاذنا الدكتور نشأت رحمه الله وقد عالج موضوع الإرهاب من جانبين :
الجانب الأول : الجانب المادي الواقعي أي عالج جذور الإرهاب على أرض الواقع المعاش وسلط الضوء على التربة الخصبة التي تنبت بذور الإرهاب حيث أشار إلى أن غالب الإرهابيين متأثرون بظروف معيشية قاسية محرومون من أبسط الخدمات الإنسانية ومن هنا ينشأ الواحد منهم ناقما على على الحياة والأحياء فهو يرى غيره يتمتع بطيباتها بينما يحرم هو منها فإذا صادف فكرا دينيا متطرفا يميل إلى العنف والعدوان صادف ذلك هوى في نفسه كما قال القائل
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا
فهذا الإرهابي غالبا يكون فارغ القلب من أية ثقافة دينية متزنة وسطية فإذا صادف هذا الفكر العدواني الذي يتوافق مع هواه الناقم الشاذ تمكن منه وأثر فيه وأخلص له إلى درجة أنه يفدي هذا الفكر بحياته فيفجر نفسه مثلا في حافلة ركاب أو مكان عام في بلده وفي أهله المسالمين .
ولذا فإن علاج هذه الطبقات البائسة وتوفير الحياة الكريمة لها من مسكن وصحة وتعليم يجفف بعض منابع الإرهاب ويضيق الخناق عليه .
وهذه القضية التي أشار إليها أستاذنا الدكتور نشأت تستند إلى منهج قرآني أصيل , فالله تعالي بين في مواضع من كتابه أنه قبل أن يطالب الإنسان بعبادته وفر له ضرويات حياته قال لآدم عليه السلام ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (لأعراف:19) فقال لهما : كلا ثم كلفهما بقوله ولا تقربا .
وقال تعالى عن قريش ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ فأمرهم بالعبادة لأنه أطعمهم وآمنهم فوفر لهم الغذاء والأمان قبل إن يطالبهم بالإسلام .
ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليقرأ كتاب : الإطعام والأمن ومنهج الدعوة إلى الله للأستاذ أحمد عبد الله الحضراوي .
والقصد أن الاهتمام بالطبقات المهمشة التي تفتقد أبسط حقوق الإنسانية وتوفير الحياة الكريمة لها من الأمور التي تجفف منابع الإرهاب وهو ما أشار إليه أستاذنا الدكتور نشأت ضيف رحمه الله .
الجانب الثاني : أما الجانب الثاني الذي أشار إليه أستاذنا في علاج الإرهاب فهو الجانب الفكري ممثلا في الوعي الديني والفهم الوسطي لشريعة الإسلام السمحاء , والتفقه في الدين والاطلاع على المذاهب المتنوعة للفقه الإسلامي بما فيها من ثروة هائلة من الآراء الاجتهادية في المسائل الفرعية والتي توحي لمن يطالعها بسعة الفقه الإسلامي ورحابته وتوحي كذلك بعظمة فقهاء الإسلام الذين اختلفوا في الفرعيات ومع هذا لم يفسد اختلافهم المودة فيما بينهم ولم يؤثر على علاقاتهم الشخصية لقد كان الإمام أحمد بن حنبل كثيرا ما يردد : كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن قال هذا مع أنه خالفه في كثير من المسائل الفرعية
وكذلك أشار الدكتور رحمه الله إلى قضية هامة جدا وهي سعة الاطلاع على كل المذاهب وكل الآراء وعدم التمحور حول مذهب معين واتجاه معين وهذا واقع أليم نعيشه ولمسته بنفسي لقد قلت رأيا فقهيا للدكتور القرضاوي أمام واحد من إخواننا المنتسبين لجماعة أنصار السنة فبهتني بقوله : لالالا هات رأي واحد من أهل الفتوى !!
فهو لا يقرأ للدكتور القرضاوي ولا يحب حتى أن يسمع رأيه ولا يعجبه الإمام الشعراوي لأنه صوفي !! ولا يقرأ ولا يسمع إلا لفلان أو فلان وفي المقابل ألاحظ أن الصوفي لا يميل للسلفيين ولا يحب سماعهم ولا أن يقرأ لهم وعلى ذلك فقس . والحق أن الجميع مخطئون لأن الحكمة ضالة المسلم أنى وجدها فهو أحق بها والله تعالى قد ذكر عقائد اليهود والنصارى مبينا فسادها في القرآن الكريم مما يدل على أن المسلم يجب أن يكون أوسع أفقا وأرحب صدرا فيسمع للجميع ويقرأ للجميع فكلهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم وكلهم يصلي صلاة واحدة ويصوم شهرا واحدا فريضة من الله ويزكي زكاة واحدة ويحج بيتا واحدا وقبل هذا يشهد ألا إله إلا الله ربا واحدا فما قيمة الخلاف في الفرعيات إذن . لقد اختلف الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم فلم يعنف هؤلاء ولا هؤلاء فعلام يدل هذا ؟
فالاطلاع على الآراء المختلفة ينأى بالمثقف المسلم عن انتقاص المخالفين وينأى به كذلك اتهامهم في دينهم فهاتان السمتان من سمات الفكر الإرهابي وقانا الله شره .
ومن وسائل العلاج الفكري للإرهاب التي ذكرها المرحوم الدكتور نشأت ضيف تفعيل دور الأسرة فهي أهم حلقة في تلك السلسلة لأنها هي التي تصنع الإنسان ماديا وفكريا ولذا جعل الله تعالى مسؤولية الرعاة مسؤولية عظيمة فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فعلى الراعي الواعي أن يعلم أبناءه كيف يختلفون كما يعلمهم كيف يتفقون وأن يرشدهم إلى أن اختلاف الرأي لا يفسد الود وأن يلتزم بهدى النبي صلى الله عليه وسلم في الرفق والتيسير والحزم والرحيم وأن يتجنب العنف والقسوة نظرا لما يتبعهما من آثار وخيمة يكفي أن أحدها هو تأهيل الولد للتخرج في مدرسة الإرهاب البغيض .
جعل الله هذا المقال في ميزان أستاذنا المرحوم الدكتور نشأت ضيف وجعله كذلك في ميزات أخينا الكريم الشيخ يسري شكر الله له صنيعه وصبره وتحمله المشقة في الدعوة إلى الله .