الحسد أسبابه *** وعلاجه

الحمد لله رب العالمين , وأصلي وأسلم على خاتم النبيين وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فإذا كان الناس يحرصون أشد الحرص على سلامة الأبدان من الأمراض , فيذهبون إلى الأطباء لعلاج أجسادهم من الأمراض التي تصيبها , وربما ينفقون عليها كثير أموالهم , فإنهم مع ذلك يغفلون عن نوع آخر من الأمراض هي أمراض القلوب , وهي أكثر ضررا وأشد إيذاء من الأمراض البدنية , فربما الإنسان يصاب في بدنه بمرض عضال قد يقعده ويعجزه لكن روحه لا تتأثر بهذا المرض , بل إنها بهذا المرض قد تسمو وتعلو وتقرب من خالقها ــــ لا أقصد بكلامي هذا أن نستسلم للمرض , بل قد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتداوي فقال : (( تداووا عباد الله .... )) ــــ ومثالنا على ذلك هذا الرجل الذي أصيب في يديه ورجليه وبصره ومع ذلك كان يقول : ( الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به غيري وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا ) .
أما أمراض القلوب فإنها تصيب أكثر ما تصيب الروح أولا , وإذا أصيبت الروح ومرضت مرض معها البدن , ولذلك فأمراض القلوب أشد أثرا من أمراض البدن .
ومن هذه الأمراض والتي سنتكلم عنها في عجالة سريعة لانتشارها وشدة تأثيرها على الخلق والتي قد لا يسلم من شرها إنسان :
الحسد :
هو تمني زوال نعمة الغير سواء أرادها الحاسد لنفسه أو لا .
وقد وردت مادة الحسد ومشتقاتها في القرآن الكريم خمس مرات : في سورة البقرة الآية رقم 109, وسورة النساء الآية رقم 54, وسورة الفتح الآية رقم 15, وسورة الفلق الآية رقم 5 مرتين . ( راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم . ص : 247 ) .
والحسد أمر معلوم لا يمكن إنكاره وذلك لوروده في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .
أنواع الحسد :
أما عن أنواع الحسد فهو نوعان :
الأول : الحسد المذموم : وهو تمني زوال نعمة الغير . وقد ذمه الله عز وجل في القرآن الكريم , قال تعالى : (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) (البقرة:109) , وحذرن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النوع من الحسد فقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه : (( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ....... )) [ رواه البخاري . ك:الأدب . ب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر ] .
الثاني : الحسد المحمود : وهو أن يرى الإنسان نعمة عند غيره فيتمنى أن تكون له مثلها دون أن يكره ذلك لغيره أو يتمنى زوالها عنه .
ويسمى هذا النوع من الحسد بالغبطة أو المنافسة في الخير , وقد أرشدنا الله عز وجل في القرآن الكريم على التنافس في الخير والمسارعة إليه , فقال تعالى : (( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )) (الحديد:21) , ويقول تعالى : (( خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ )) (المطففين:26) , وقد الصحابة رضوان الله عليهم يتنافسون في فعل الخيرات وذلك كما ثبت أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان دائما ينافس سيدنا أبا بكر رضي الله عنه في الصدقات وكان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يسبقه .
وعلى هذا فإذا أطلق لفظ الحسد فيراد به الحسد المذموم .
ومن الألفاظ المرادفة للحسد والتي تؤدي على نفس تأثير الحسد ( العين ) ومعناها : نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر . [ فتح الباري . 11/357 ] .
الفرق بين الحسد والعين :
يقول ابن القيم : (والعاين والحاسد يشتركان في شيء ويفترقان في شيء ؛ فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه , فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته , والحاسد يحصل له ذلك عند غيب المحسود وحضوره أيضا .
ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه وربما أصابت عينه نفسه فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين ) [ بدائع الفوائد . 2/456 ] .
وجاء في تفسير أضواء البيان : ( وَيَشْتَرِكَانِ ( أي الحسد والعين ) فِي الْأَثَرِ ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي الْوَسِيلَةِ وَالْمُنْطَلَقِ .
فَالْحَاسِدُ : قَدْ يَحْسُدُ مَا لَمْ يَرَهُ ، وَيَحْسُدْ فِي الْأَمْرِ الْمُتَوَقَّعِ قَبْلَ وُقُوعِهِ ، وَمَصْدَرُهُ تَحَرُّقُ الْقَلْبِ وَاسْتِكْثَارُ النِّعْمَةِ عَلَى الْمَحْسُودِ ، وَبِتَمَنِّي زَوَالِهَا عَنْهُ أَوْ عَدَمِ حُصُولِهَا لَهُ وَهُوَ غَايَةٌ فِي حِطَّةِ النَّفْسِ .
وَالْعَائِنُ : لَا يَعِينُ إِلَّا مَا يَرَاهُ وَالْمَوْجُودَ بِالْفِعْلِ ، وَمَصْدَرُهُ انْقِدَاحُ نَظْرَةِ الْعَيْنِ ، وَقَدْ يَعِينُ مَا يَكْرَهُ أَنْ يُصَابَ بِأَذًى مِنْهُ كَوَلَدِهِ وَمَالِهِ ) [ تفسير أضواء البيان. 9/164 ] .
كيفية تأثير العين على المعين ( المحسود ) :
يقول ابن حجر رحمه الله تعالى : ( أن طبائع الناس تختلف فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون وقد نقل عن بعض من كان معيانا ( وهو العائن أو الحاسد ) أنه قال إذا رأيت شيئا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد وكذا تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس من غير أن تمسها يدها [ .......... ] , وزعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد , وهو كإصابة السم من نظر الأفاعي وأشار إلى منع الحصر في ذلك مع تجويزه ( أي أن تأثير العين على المعين أو المحسود لا يقتصر على ذات العين بل إنه يحصل الضرر بإرادة الله عز وجل ) وأن الذي يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص لآخر ) [ فتح الباري . 11/357 ] .
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (قالت طائفة: إنَّ العائن إذا تكيَّفت نفسُه بالكيفية الرديئة، انبعث مِن عينه قُوَّةٌ سُمِّيةٌ تتصل بالمَعِين، فيتضرر. قالوا: ولا يُستنكر هذا، كما لا يُستنكر انبعاثُ قوة سُمِّية من الأفعى تتصل بالإنسان، فيهلكِ، وهذا أمر قد اشتُهِرَ عن نوع من الأفاعى أنها إذا وقع بصرُها على الإنسان هلك، فكذلك العائنُ.
وقالت فِرقة أُخرى: لا يُستبعد أن ينبعِثَ من عَيْن بعضِ الناس جواهِرُ لطيفة غيرُ مرئية، فتتصل بالمَعِين، وتتخلل مسامَ جسمه، فيحصل له الضررُ ) [ زاد المعاد . 4/165 ] .
أسباب الحسد :
هناك أسباب كثيرة للحسد منها على سبيل الإجمال :
1 ــــ العداوة والبغضاء : فإن من يبغض إنسانا ويكرهه لسبب ما فإن هذا البغض وتلك الكراهية تؤدي به إلى تنمي زوال نعمته عنه .
2 ــــ التعزز والترفع والكبر : وذلك لأن الإنسان الذي يترفع على زملائه يثقل عليه إذا رأى أحد زملائه قد حصل له خيرا فيحسده على هذا الخير . وكذلك الإنسان الذي يتكبر عليه زميله إذا رأى زميله المتكبر قد حصل له خير أو أصاب منصبا فقد يدفعه تكبر زميله عليه إلى حسده .
3 ــــ التعجب : فبعض الناس يرى غيره في نعمة فيندهش ويتعجب كيف حصل عليها هذا الشخص , وهو مثله أو ما كان هو أحق بها منه , فعند ذلك يقع في الحسد لتزول هذه النعمة عنه .
4 ــــ خبث النفس : وذلك لأن خبث النفس وحبها للشر من أكثر الأسباب لانتشار الحسد .
وهناك أسباب كثيرة للحسد , وتلك هي أهمها .
الوقاية من الحسد :
ذكر الإمام ابن القيم بعض الأمور التي تقي من الحسد , وهي في إيجاز كما يلي :
1 ــــ التعوذ بالله وحده من شر الحسد , قال تعالى : (( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ )) . (الفلق:5) .
2 ــــ تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه , قال تعالى : (( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً )) (آل عمران:120) .
3 ــــ الصبر على عدوه : فلا يشكوه إلا لله ولا يحدث نفسه بأذاه , فما نُصر أحد على حاسده بمثل الصبر عليه .
4 ــــ التوكل على الله : قال تعالى : (( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً )) (الطلاق:3) .
5 ــــ تجديد التوبة إلى الله من الذنوب , وليعلم العبد أن ما يصيبه إنما هو من ذنوبه , قال تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ )) (الشورى: 30 ) .
وهناك أمور أخرى كثيرة للوقاية من الحسد , فلتراجع في : [ بدائع الفوائد . 2/ 463 ــــ 470 ] .
علاج الحسد :
الحديث عن علاج الحسد ينقسم إلى شقين أساسين هما :
الأول : علاج المحسود :
إذا وقع الحسد لأحد المسلمين فإنه يمكن أن يعالج نفسه أو يعالجه غيره بالرقية الشرعية الثابتة في القرآن والسنة , ولا بد أن يعتقد أن هذه الرقية لا تأثير لها إلا بإذن الله تعالى , ويمكن إيجاز علاج الحسد فيما يلي :
أولا : قراءة القرآن , وخاصة المعوذات وهي : سور الإخلاص والفلق والناس .
ثانيا : يقول المحسود على نفسه أو يقول المعالج للمحسود : ( بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك , ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك , بسم الله أرقيك ) .
ثالثا : الإكثار من الدعاء , وخاصة عند السجود وفي ثلث الليل الأخير وبين الأذان والإقامة ويوم الجمعة وغير ذلك من الأوقات الفاضلة التي يستحب فيها الدعاء .
رابعا : المحافظة على الصلوات المفروضة : جماعة والإكثار من الاستغفار والنوافل والصدقات .
وبالجملة أن يكون المسلم مع ربه دائما لا يبتعد عنه , وأن يحافظ على أوامره فيتبعها , ونواهيه فيجتنبها .
الثاني : علاج الحاسد :
وهذا أمر هام جدا , لأن الطبيب عندما يعالج مرضا ما بحث عن سببه وعلته وعالج هذا السبب وتلك العلة حتى لا يعود المرض مرة أخرى , ولذلك فإن من الأمور التي تساعد الحاسد على الشفاء من هذا المرض ما يلي :
1 ـــ الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره , وليعلم أن الله عز وجل جعل الناس في هذه الدنيا درجات منهم الغني ومنهم الفقير , ومنهم الرئيس ومنهم المرءوس وهكذا , وهذا من سنة الله عز وجل ؛ حيث لم يعطِ الله سبحانه وتعالى إنسانا كل شيء , وإنما فضّل كل إنسان بشيء قد لا يوجد في أخيه , فمنهم من فضّله الله بالمال , ومنهم من فضّله بالصحة , ومنهم من فضّله بالعلم , ومنهم من فضّله بالأولاد وهكذا , وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى حتى يتمكن العباد من عمارة الدنيا , وإلا لو كان كل الخلق أغنياء ولم يحتج أحد إلى أحد , أو كانوا جميعا علماء , أو كانوا كلهم سادة وأصحاب مناصب عليا لما كان من الممكن أن تعمر هذه الدنيا قال تعالى : (( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ )) (الزخرف: الآية32) .
2 ـــ حب الخير للناس كما يحبه لنفسه , وهذا مأخوذ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) [ رواه البخاري . ك:الإيمان . ب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ] , فالمسلم إذا أحب الخير لإخوانه لم يحمل لهم في نفسه حقدا ولا حسدا.
3 ـــ تزكية نفسه : وذلك بالمداوة على ذكر الله عز وجل والمحافظة على الصلوات في أوقاتها وقراءة القرآن وغير ذلم من الأمور التي تجعل الإنسان في معية الله سبحانه وتعالى , فلا يكون للشيطان عليه سبيل , ولا لنفسه الأمارة بالسوء عليه سلطان .
4 ـــ أن يعود العائن نفسه على ذكر الله سبحانه وتعالى إذا رأى شيئا يعجبه , وذلك بأن يقول ( اللهم بارك عليه , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف : (( ألا برّكت )) اي قلت اللهم بارك عليه . [ المعجم الكبير ].
وكذلك مما يدفع به العائن أو الحاسد إصابة عينه لغيره أن يقول : ( ما شاء الله لا قوة إلا بالله )) كما قال تعالى : (( وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً )) (الكهف:39) .
إلى آخر هذه الأمور التي تحمي العائن من أن يَعين غيره .

أقوال بعض السلف في الحسد :
• الحسد داءٌ منصفٌ، يفعل في الحاسد أكثر من فعله بالمحسود .
• وقال الفقيه المعروف أبو الليث السمرقندي ـ رحمه الله تعالى ـ : يصل الحاسد خمس عقوباتٍ قبل أن يصل حسده إلى المحسود، أوّلها: غمٌ لا ينقطع، وثانيها: مصيبةٌ لا يؤجر عليها، وثالثها: مذمةٌ لا يحمد عليها، ورابعها: سخط الرب، وخامسها: يُـغْـلَـق عنه باب التوفيق.
• وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لله در الحسد ما أعدله **** بدأ بصاحبه فقتله.
وفي الختام أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجنبنا شر الحسد , وأن يشفي جميع مرضى المسلمين . اللهم آمين .