بسم الله الرحمن الرحيم
من سمات المؤمن أن يدور مع الحكمة حيث دارت وأن يقبلها ممن قالها أيا كان اتجاهه في مذاهب التدين وطرائقه , وكم من حكمة عظيمة نابعة من تجربة إنسانية عميقة قيلت على لسان أحد الحكماء أو الفلاسفة الذين لم يتصلوا بوحي من الله تعالى فليس من الحكمة أن يتجاهلها المسلم ما دامت تفيده في جانب معين من جوانب دينه أو حياته ، فالحكمة وهي: (( القول السديد الرشيد الذي يوافق الكتاب والسنة وهي ليست في الكتاب والسنة )) هي ضالة المؤمن بمعنى الشيء الثمين المفقود من المسلم فهو لا يزال ينشده في كل مكان يستطيع الوصول إليه فإذا وجده كان أحق الناس في قبوله والعمل به .
روى ابن ماجة في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي مجال التدين لاحظت أن تلك الحكمة لا تتأتى للعالم أو الباحث أو واسع الثقافة أو المتبحر في العلم حتى يعمل بعلمه وصدق من قال : ((العلم بالعمل يورثك علما جديدا ))؛ ومما يمتاز به علم التصوف الإسلامي أنه لا يؤتي ثمرته إلا لمن سلك طريق الصفاء إلى الله سلوكا عمليا , ولا يعجبن القاريء إذا علم أن هناك باحثين في مجال التصوف حصلوا على أعلى الدرجات العلمية فيه ومع ذلك ليسو ا متصوفين ؛ لأن التصوف تجربة وذوق وسلوك لا بحث نظري وحسب .
والعالم إذا تصوف حقا فجر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فأتى بأعاجيب القول المتولد من التجربة والناتج عن العمل فإذا هو يصيب كبد الحقيقة بأيسر تعبير وأوجز إشارة تاركا التفيهق والتشدق والحذلقة لأهلهن.
وأحد هؤلاء الأعلام هو سيدي أحمد ابن عطاء الله السكندري وقد لا حظت من مطالعة بعض آثاره النيرة أنه حريص على إفهام من يحدثه أو يكتب إليه وهذا من سمات المخلصين ولا نزكي على الله أحدا , ومن صور هذا الحرص على إيصال الحكمة والتفهيم حرصه على تبسيط المعاني الجليلة عن طريق ضرب الأمثال التوضيحية والتتشبيهات الجلية لموضوع القضية التي يتحدث عنها
وسأشير إلى هذا الأسلوب الدعوي الرائع إن شاء الله بعد التعريف بشخص متصوفنا الجليل رضي الله عنه .
فهو ( أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن عيسي بن عطاء الله السكندري، أحد أركَان الطريقة الطريقة الشاذلية الصوفية التي أسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي 1248م وخَلِيفتُه أبو العبَاس المرسي 1287م.
وَفد أجداده المَنسوبون إلى قَبيلةِ جذَام، إلى مصر بعد الْفتح الإسلامي واستوطنوا الإسكندرية حيث ولد ابن عطَاء الله حَوالي سنة 1260 ونَشأ كجدهِ لوَالده الّشيخ أبى مُحمد عبد الْكريم بن عطَاء الله، فَقيهاً يَشتغلُ بالعُلومِ الشَرعية حيث تلقي منذ صباه العَلوم الدينية والشرعية واللغوية، وكان في هذا الطَور الأول من حيَاتِه ينُكر على الصوفية إنكارا شَديداً تعصباً منه لعلومِ الفقهَاءِ. فما أن صحب شيخه أبو العباس المرسي 1286 واستمع إليه بالإسكندرية حتى أعجب به إعجابا شديداً وأخذ عنه طريق الصوفية وأصبح من أوَائل مُريديه. حيث تَدرج ابن عطَاء في منَازلِ الْعلم والمَعرفةِ حتى تَنبأ له الشيخ أبو العبَاس يوماً فقَال له: (الزم، فو الله لئن لزمت لتكونن مُفتياً في الْمذهبين) يَقصدُ مَذهب أهل الحَقيقة وأهل العلم البَاطن.
من تلا ميذه :
أخذ عن ابن عطاء الله بعد ذلك الكثير من التلامذةِ منهم ابن المبلق السكندري، و تَقي الدين السبكى شيخ الشَافعية،
وفاته :
وتوفي ابن عطاء ودفن بالقَاهرةِ عَام 1309. ولا يزال قَبره مَوجوداً إلى الآن بجبَانة سيدي على أبو الوفاء تحت جبل المُقطمِ من الجهةِ الْشرقية لجبَانة الإمام الليث.
آمؤلفاته :
ترك ابن عطَاء الكثير من المُصَنفات و الكُتب منها ما نسيه الزمن وغمرته ريَاح السَنون، لكن أبرز ما بقي له:
لطَائف المنن، في منَاقبِ الشيخ أبى العباس وشيخه أبى الحسن
القصد المُجرد في مَعرفةِ الاسم المُفرد
عنوانُ التوفيقُ
تَاجُ العروسُ الحاوى لتهذيب النفوس
مفتاحُ الفلاحُ، ومصبَاحُ الأرواح
الحكم العطائية، وهي أهم ما كتبه وقد حظيت بقبول وانتشَار كبير ولا يزال بعضها يُدرس في بعض كُليات جامعة الأزهر، كما تَرجم المُستشرق الانجليزى آرثر اربري الكثير منها إلى الانجليزيه، وترجم الأسبانى ميجيل بلاسيوس فَقرات كثيرة منها مع شرح الرندى عليها..
وبمناسبة ذكر الموسوعة لاعتراضه على التصوف بشكل عام في بداية أمره أذكر بأن اعتراضه كان على الشيخ أبي العباس المرسي رضي الله عنه وكان يعلن اعتراضه في حلقته في الجامع الأزهر فقد كان ابن عطاء من أئمة المذهب المالكي , وقد ارتأى بعض تلاميذه ممن يعرف من هو أبو العباس أن يكون حكم شيخه ابن عطاء على أبي العباس عن كثب لا عن كتب وعن مشاهدة لا عن سماع منقول فقد يخطيء من ينقل ويقول ، فأشار التلميذ المخلص على أستاذه ابن عطاء أن يحضر حلقة أبي العباس بنفسه ليرى ويحكم , وتردد ابن عطاء بعض الأمر ولكن هداه تفكيره إلى زيارة الحلقة , فلما حضرها سمع الشيخ أبا العباس يقول :
إن الأحوال المتعاقبة على النفس في تطورها الروحي ثلاثة أحوال :
أولها الإسلام , وثانيها الإيمان , وثالثها الإحسان
وإن شئت فقل هي ثلاثة : أولها العبادة وثانيها العبودية وثالثها العبودة
وإن شئت فقل أولها الشريعة وثانيها الحقيقة وثالثها التحقق
وظل الشيخ يقول ,وإن شئت فقل ..., وإن شئت فقل ... فأحس ابن عطاء أن الرجل يمتاح من بحر معرفي لا ساحل له وانطلق إلى منزله دهشا من جلال الموقف وهيبته ومن نور الشيخ الذي يتهادى من طلعته ولم يستطع ابن عطاء أن ينام تلك الليلة , فما أن أذن الفجر حتى هرع للصلاة في مسجد أبي العباس ثم استأذن في الدخول عليه , فراعه أن الشيخ يقوم له ويهش للقائه ويبش في وجهه وكأنما كان ينتظره فاحتضنه وقال له له يابني والله لئن أخلصت لتكونن مفتيا في المذهبين مذهب أهل الشريعة ومذهب أهل الحقيقة .
وانطلق ابن عطاء إلى حلقته بالجامع الأزهر وجلس على كرسي الدرس ليذكر لتلاميذه ما حدث له من تحول مفاجيء في موقفه من أهل التصوف وما حدث له مع الشيخ أبي العباس
واسترسل في مواضيع أخرى تتعلق بصفات الله تعالى وأنهى درسه بقوله :
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء ؟
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء ؟
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء ؟
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر لكل شيء ؟
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء ؟
كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أقرب إليك من كل شيء؟
كيف يتصور أن يحجبه شيء ولولاه ما كان وجود شيء ؟
وصاح التلاميذ رفقا يا أستاذنا فهذا كلام نفيس يستحق التسجيل .
وصار ابن عطاء من أئمة التصوف فيما بعد , وكتبه المذكورة آنفا تحوي دررا غالية , وتحتوي على دروس دعوية جديرة بالتأمل وخصوصا لمن يعمل في مجال الدعوة إلى الله تعالى
ومن هذا الأساليب الدعوية الرائعة أسلوب ضرب المثل وكيف وظفه رضى الله في إيصال المعاني السامية إلى عقول البسطاء من أيسر طريق فأعجب البسطاء والعلماء على حد سواء ووعظ الفريقين بأجمل عبارة وأحسن إشارة و لو اقتدى به داعية في عصرنا لاارتفعت قيمة خطابه مع سهولتها ولارتقت معانيه مع بساطتها, وودت أن أتحدث عن هذا الأسلوب الذي يميز خطاب ابن عطاء رحمه الله عن كثير من الأساليب الوعظية الأخرى وودت أن أخوض فيه في هذا المقال لكن ضاق علي الوقت والله المستعان أن أكمله في حلقة تالية أو أن يتحفنا أحد أعضاء المنتدى الكرام بالكتابة في هذا الموضوع النافع للجميع بإذن الله .
ملخصا من :
ويكيبديا - أشواق العارفين د محمد رجب البيومي أطال الله بقاءه وأنعم عليه بالعافية .