طريق الهجرتين وباب السعادتين

بسم الله الرحمن الرحيم
حاولت أن أكتب عن هجرة الرسول صلى الله عليه من مكة إلى المدينة وما لها من أثر عظيم لا في تاريخ الإسلام ولا في تاريخ العرب فحسب بل في تاريخ العالم كله ؛ حيث إن هذه الهجرة المباركة قد أطلقت الهدى من عقاله , فانساب في الأرض يعلم الناس أن يقدروا عقولهم حق قدرها باعتناق عقيدة التوحيد , وأن يقدروا إنسانيتهم بما يليق بها لو تمثلوا الأخلاق الإنسانية التي جاء بها الإسلام , وحاولت استنباط الدروس والعبر من أحداث الهجرة الشريفة , فما استطعت أن أحصل جديدا , أو أقنص شريدا , وجعلت أطوف حول كتبي متمثلا ببيت عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
وبينما أطوف أذن الله بالفرج بعد الشدة , وبالأنس بعد الوحشة , فبرق أمام عيني كتاب جليل القدر , عظيم النفع , وهو من نوادر الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله , ولهذا الكتاب بموضوع الهجرة صلة بل صلتان , فإن كانت الهجرة واحدة , ففي هذا الكتاب هجرتان , وهذا واضح من عنوانه : (( طريق الهجرتين وباب السعادتين )) .
وهذا الكتاب واحد من كتب الإمام ابن القيم رحمه الله التي تعرج في عالم الصفاء الروحي , وتغوص في بحر التصوف اللجي , وهو نوع تصوف له من اسمه نصيب , بل يكاد يكون مستحوذا على اسم ( التصوف) كله ، فهو بحق صفاء في صفاء ، سواء في منبعه الرائق وهو القرآن الكريم وصحيح السنة , أو في نصوصه وأقوال رجاله التي أشعت من مشكاة القرآن , أو في يقظته الراصدة لكل فهم دخيل يشوه صورة القيم الحضارية التي جاء بها الإسلام , فيجعل من التصوف شكلا بلا روح , ومظهرا بلا جوهر , وإسلاما خاملا بلا حركة ولا نفع .
ويبين الإمام رحمه الله سبب تسميته لكتابه بهذا الاسم مشيرا إلى أن العبد المسلم القريب من ربه الذي يحس بوجوده في النعماء والرخاء إحساسه به في الضراء والبلاء , ويستشعر حضور ربه عند الطاعة فيخلصها له تعالى , وعند المعصية فيرعوى عن فعلها , هذا المسلم الرباني الذي إذا رآه الناس تذكروا طاعة ربهم يعيش حياته مهاجرا , نعم فله كما يقول ابن القيم رحمه الله ((في كل وقت هجرتان : هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجأ والافتقار في كل نَفَسٍ إليه .
وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافقة لشرعه ...ولا يقبل الله من أحد دينا سواه , وكل عمل سواه فعيشُ النفس وحظها لا زاد المعاد )) ولا هو مما ينفع في الدار الآخرة .
وفي هذا الإطار يتحدث الإمام رحمه الله عن الرجوع الدائم إلى الله , وعلى الإنابة المستمرة إليه سبحانه , بما تشتمل عليه الإنابة من معنى الهجرة والانتقال من حال إلى حال , وحديثه رحمه الله عن ( الإنابة ) ليس حديث من يدعو إليها ويحث عليها فحسب بل هو حديث العالم المدقق , والغواص المحقق ، فهو يُقَسِّمُ الناس في إنابتهم لربهم إلى أنواع , ولا يكتفي بذلك حتى يبين مصدر كل نوع من هذا الأنواع , وسببه الذي ينحدر منه .
فمنهم من ينيب إلى الله من المعاصي والمخالفات والذنوب ويعلن توبته منها وتخلصه من ظلامها وثقلها , وسبب هذه الإنابة غالبا هو تَذَكُّرُ وعيد الله وعذابُه , وبأسه وجبروته , والمنيب في هذه الحال قد تعبد ربه بترك المعاصي , وهجر المنكرات , وهي عبادة من أفضل العبادات , بل ورد في الأثر أنها صدقة من الصدقات , ففي الحديث : (( فليمسك عن الشر فإنها له صدقة ))
ومن الناس من يترقى في إنابته درجة أكبر من سابقه فلا يكتفي بترك المحرمات وإنما ينيب إلى الله بالدخول في أنواع العبادات وألوان القربات فهو يسارع في مرضاة ربه , حبا , ورضا , وسرورا بالإقبال على ما يرضيه , وهذا النوع من الإنابة يكون باعثه الأقوى هو رجاءَ رحمة الله والطمع في ثوابه ونيل رضاه .
وأما المنيب الثالث فيسبق أخويه درجة فهو وإن ترك المحرمات واجتهد في العبادات والقربات إلا أن إنابته بكثرة ذكر الله وكثرة التضرع إليه والدعاء وإظهار الافتقار , وطلب الحاجات كلها منه تعالى قبل اللجوء إلى المخلوقين , والدافع الأقوى له على ذلك هو أنه شهد فضل الله الواسع ونعمه السابغة , الظاهرة والباطنة , وقدرته اللامحدودة , وتدبيره الذي لا يعوقه عائق , فهداه قلبه , وحداه عقله أن يجعل اسم ربه على قائمة المسؤولين , وأن يكون باب مولاه أول أبواب المطروقين .
وأما المنيب الرابع , فغير هؤلاء جميعا حيث تَسَنَّمَ أعلى درجات الإنابة , فهو عبدٌ قد أفلح لما زكي نفسه بالطاعات حتى رَنَتْ روحه إلى مصدرها , واتصلت بموطنها الأول في الملإ الأعلى فهي قد أنابت إلى خالقها , واطمأنت في جوار بارئها , وإذا كان منزلها من الجسد منزل الراعي من قطيعه , فإن كل أعضاء الجسم قد أنابت بإنابتها , وهاجرت في موكب هجرتها , فلا يشذ عضو عن الطريق , ولا تهفو جارحة لما يخالف العهد الوثيق .
ولعل هذا يفسر قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقد سُئِلَتْ عن خُلِق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن . نعم فكان سلوكه كله صلى الله عليه وسلم يمثل مبادئ القرآن ويظهرها حية تتحدث أمام الناظرين .
ولعل هذا التقسيم من الإمام ابن القيم رحمه الله يلقي بصيصا من الضوء على الحديث القدسي : (( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه , فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به , وبصره الذي يبصر به , ويده التي يبطش بها , ورجله التي يمشي بها )) . فالعبد انتقل من حال إلى حال ومن أدنى إلى أعلى إلى أعلى منه في سلم القرب من الله حتى وصل إلى هذه الدرجة من المحبة . ويا لها من درجة .
تحذير :
وإذا كان طريق الهجرة التي يحدث عنها الإمام ابن القيم على هذا المسير التصاعدي , وإذا كان الترقي في درجاتها من الجهاد بمكان عظيم , فمن جهاد النفس في التعبد إلى الله بترك المحرمات ، إلى جهادها في تحمل عناء المصابرة على الاستزادة من الطاعات , إلى جهادها في استدامة ذكر الله في كل موطن من مواطن الحيوات , حتى إذا أنابت الروح , وهاجرت بالأعضاء عن المهابط والسفوح , كان الجهاد في الحفاظ على هذه الدرجة هو الجهاد الأكبر , ومن هنا ينادي الإمام على هذا المنيب أن احذر ثم احذر .
نعم ؛ لأنه إذا سقط من جديد , ذاق طعم الخسران المبين , والعذاب الروحي الأليم (( وعُذبَ في حياته عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين ، فحياته عجز وغم وحزن , وموته كدر وحسرة , ومعاده أسف وندامة )) , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ومن أشد صور هذا العذاب النفسي تَأَلُّمُه كلما رأى أصحابه الذين تخلى عن طريقهم فتخلف وسبقوه , فلا هو من ذوي الجهل فيتلذَّذ في المعاصي والمنكرات بجهله , ولا هو ممن علم فانتفع بعلمه , فهو لا يزال مذبذبا , حائرا مضطربا , ويصوره الإمام ابن القيم بصورة تبعث الأسى , وتوقظ الحسرة , حيث يشبهه بالبازي -وهو جنس من الصقور- الذي كان يُعِدُّ نفسه سيدَ الرياض , وملكَ الصحاري , يحلق بجناحيه حيث شاء , في أي موضع بين الأرض والسماء , يصف جناحيه ويقبضهما , ويتعقب صيده فلا يفلت من مخالبه , ولا يسلم من منقاره الجارح , ثم تصيبه مصيبة فيفقد جناحيه ويستكين , ويرقد على الأرض ينظر إلى الأفق الفسيح ، إلى عصائب الطير تروح وتغدو , وتلهو وتمرح , ثم ينظر إلى جناحيه الكسيرين نظرة ملؤها الحسرة والأسف , فلا هو من مخلوقات الأرض التي تسير على قدمين ليستطيع العيش بينهم , ولا هو بقادر على التحليق في موطنه فلعمرك تلك معيشة لا يموت فيها ولا يحيى .
هكذا صاحبنا الذي أعزه الله بطاعته , وقطع شوطا بعيدا ثم ارتكس في حمأة المعصية , وترنح في وحل الذنوب , (( كان قلبه يحوم حول العرش فأصبح محبوسا في أسف الحش :
فأصبح كالبازي المُنَتَّفِ ريشُه
يرى حسراتٍ كلما طار طائرُ
وقد كان دهرا في الرياض مُنَعَّمًا
على كل ما يهوى من الصيد قادر
إلى أن أصابته من الدهر نكبةٌ
فأصبح مقصوصَ الجناحين حاسرُ
...فيا معرضا عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم , ويا بائعا سعادته العظمى بالعذاب الأليم , ...إنما هي لذة فانية , وشهوة منقضية , تذهب لذتها وتبقى تبعتها , فرح ساعة لا شهر , وغم سنة بل دهر , طعام لذيذ مسموم , أوله لذة , وآخره هلاك )).
وبعد :
فكما أشرت في بدء الكلام : إن تصوف ابن القيم إنما ينبع من مصدر وثيق , ويتصل بحبل متين , ويمتاح من معين صاف , ولا أدل على ذلك من كون ما سبق ذكره من تصوره للهجرة الذاتية , واستجلائه لبعض معانيها , وتحذيره من مزالقها ..كل أولئك ليس إلا فتحا ربانيا هبط على ابن القيم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( لاهجرة بعد الفتح , ولكن جهاد ونية )).
فكل ما ذكر أعلاه لا يخرج عن دائرة جهاد النفس حتى تزكى , وجهاد النية حتى تكون خالصة لله رب العالمين .
فما أحوج مسلم هذا العصر لاسيما المحاصر بأسوار عالية من إنتاج الحضارة الحديثة إلى مراجعة تراثه الروحي , وإلى التنزه في رياضه الفسيحة , ذلك أنه لو تكن له تلك السبحات الروحية الشفيفة , لعرض نفسه لداء بل أدواء هذه الحضارة المائلة , من ظلمة الروح , وطغيان الفكر , وجشع المادة , وحيوانية الحاجة , والاستخفاف بالمبادئ أمام المكاسب , والاستهتار بالقيم إذا تعارضت مع المصالح ....وقل ما تشاء , وحدث ولا تثريب عليك .
نعم ما أحوجه إلى ولو إلى نوع واحد من أنواع الهجرة الأربعة التي حدثنا عنها الإمام ابن قيم رحمه الله , وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .

صلى الله عليه وسلم
اللهم ثبتنا على الايمان
ولكن عندى سؤال واريد النصيحة لا الجواب
كيف نثبت النفس على الايمان ولايمان يزيد وينقص عندنا
ففى بعض الاحيان تجدنا نصوم ونصلى النوافل قبل الفروض
ونقرا القرأن ونذكر الله كثيرا
وفى بعض الاحيان تجدنا نلهو مع اللاهين وابتعدنا كثيرا
وفقق الله يادكتور

]ثبت الله إيمانك
لاأملك إلا الدعاء لك بذلك , فالمسألة في غاية الخطورة , لأن الإيمان لا يستطيع تثبيته أحد من المخلوقين , فهو يزيد بالعمل الصالح , وينقص بالمعاصي والمنكرات
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك .
وقد أدرك الناس ذلك , أدركوا أن الإيمان محله القلب ,وهو محل غير ثابت , فقال قائلهم
ما سمي القلب قلبا إلا من تقلبه .....فاحذر عى القلب من قلب وتحويل
ومادمت تريد حلا عمليا فليس لك إلا أمران :

الأول : أن تزيد من أعمالك الصالحة سائلا الله القبول
الثاني : أن تكثر من رعاء الله ورجائه أن يحسن ختامك .

اللهم امين
شكرا يادكتور فؤاد

» سلسلة مواضيع : ((طريق الإلتزام)) {1}
» سلسلة مواضيع : (( طريق الإلتزام )) {6} صوت من الجنه
» سلسلة مواضيع : (( طريق الإلتزام )) {7} .. إخوه ..
» سلسلة مواضيع : ((طريق الإلتزام)) {7} .. أخوات ..
» الإعلان قريبا عن خارطة طريق لإصلاح الأجور