أشرت في مقال سابق إلى أن الشريعة الإسلامية ذات فلسفة نموذجية في بناء الشخصية الإنسانية , حيث إنها إذا وجدت مجالا للتطبيق الكامل الشامل تصنع ذلك الإنسان الذي لا تخاف منه على أخيه الإنسان ، فالشخص المسلم مفروض عليه أن يعلن الخضوع لربه خمس مرات في اليوم والليلة وهو يعلم أن إعلان الخضوع هذا له لوازم منها أن يكون أنموذجا يحتذى في معاملة بني الإنسان والرأفة بالحيوان والجماد فالدين المعاملة , ومنها أن يتحرى الكسب الحلال فيأمن بنو الإنسان منه على أموالهم من السرقة والغصب , ولا يخشون أن يستغل حاجتهم فيمتص دماءهم بالربا ويأمنون في معاملته من الغش بكل صوره ، وهو يوقن أنه إذا لم يأمن منه مجتمعه وعالَمُه لن تقبل له صلاة ولا زكاة ولا حج ....إلخ .
وقد تحدثت سابقا عن الارتباط الحيوي بين العبادات والاجتماع والاقتصاد مدللا على أنها جسد واحد إذا أهملنا رعاية عضو منه أصبنا باقي الأعضاء بالشلل التام فلا منفعة ترجى من ورائه في الدنيا والآخرة .
ولم أشر متعمدا إلى الصيام كمنوذج من نماذج العبادات التي تتطلب هذا الارتباط المقدس وهداني الله تعالى إلى أن أرجئ الحديث عنه في صحيفة منفردة لمناسبته لهذا الشهر العظيم .
فالصوم هو الآخر ينزع في تشريعه إلى ذلك المنزع الأخلاقي , ويصب في دائرة السلوك الشخصي المنضبط المتوافق مع روح الاجتماع .
ومن أدلة ارتباط الصيام كعبادة إسلامية بالأخلاق الفردية والاجتماعية ما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )) .فهذا الحديث الشريف يبين للقارئ الكريم أن الصيام نصفان : أولهما : النصف المرتبط بالجسد المادي ويتمثل في حرمانه مما أحله الله تعالى له من مادة الحياة وهي الطعام والشراب والشهوة لمدة محددة ( من أذان الفجر إلى أذان المغرب), وثانيهما : النصف المرتبط بالجانب المعنوي للإنسان وهو جانب الخلق والأدب في كلام اللسان وعمل الجوارح .
ولا بد من تكامل النصفين معا ليكون المسلم حقيقا بوصف الصائم ، وعنى هذا أن من يقوم بالجانب الأول فقط ويهمل الثاني ليس بصائم صياما كاملا حقيقيا وإنما هو نصف صائم .
والرسول صلى الله عليه وسلم يبين ذلك في الحديث الشريف بمعنى يتضمن التحسر والأسف والأسى ، فهذا الصائم الذي لا يترك الكلام بالزور _ وهو اسم جامع لكل باطل مثل الكذب والغيبة والتنابز بالألقاب , والفحش في القول ، وهذا الصائم الذي لا يترك العمل بالزور ويشمل كل عمل باطل مثل النظر المحرم أيا كانت وسيلته أو المشاركة في مجالس الغيبة أو قتل الليل أمام شاشات المنكر , أو استغلال الوظائف العامة في قبض الرشا من مهدودي الدخل ......إلخ من يفعل فإن الصيام لم يؤثر فيه , وطالما أن الصيام شرع لتهذيب النفس والتدرب على الحياة الطاهرة العفيفة وتربية الضمير الحي والعيش في مقام مراقبة الله تعالى ( لعلكم تتقون ) طالما كان هذا مقصوده وهو لم يتحقق مع صاحبنا هذا فإن نبينا صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن الله تعالى ليست له حاجة في جوعه وعطشه .
مثل ذلك من يبعث ابنه إلى مدرسة ليتعلم فيها ويشجعه على سلوك سبيل العلم والحصول على أعلى الدرجات , وبالفعل يواظب الولد على الحضور يوميا في المواعيد المحددة ويتكبد عناء السفر ومشاقه ذهابا وإيابا ومع ذلك يقضي وقت حضوره ساهيا أو نائما ويهمل ما كلف به من واجبات إهمالا وفي نهاية العام يحصل على صفر كبــير في كل مواد الدراسة فياليت شعري ماذا أفاد والده من حضوره المنتظم في المدرسة وماذا جنى من تعب ولده في السفر ذاهبا آيبا ؟ مالفائدة ؟.
كذلك من الناس من كلفه الله تعالى بالصوم وأخبره أن كلفه به ليكون من أهل التقى والطهر والعفاف فإذا به يواظب على الحضور اليومي من أذان الفجر إلى أذان المغرب ولكنه ينسى الحصص العملية في دروس التقوى والطهر والعفة ويهرب من حصص أدب الصوم وأخلاقه !!
ولتنظر معي أخي الكريم في هذا الحديث القدسي الجليل الذي يؤكد هذا المعنى :
روى الإمام البخاري عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((قَالَ اللَّهُ : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ ))
ففي يوم الصوم – وذلك مطلوب في غيره أيضا إلا أنه آكد في الصوم – لا يصح للصائم أن ( يرفث ) أي يتكلم بالكلام الماجن الفاحش الخارج عن حدود الأدب الخالي من الذوق ، ولا يصح من الصائم أن ( يصخب ) أي لا يصح منك كصائم أن ترفع صوتك في الكلام أو عندما تطلب شيئا من غيرك وإنما المطلوب منك الهدوء والسكينة وخفض الصوت , ولا يصح منك كصائم أن ترد السيئة بمثلها إذا استفزك إنسان واستدرجك إلى مالا ينبغي من السباب أو العراك وعليك في هذه الحال أن تذكر نفسك بصيامك ( اللهم إني صائم اللهم إني صائم ) .
ولك أن تتخيل لو كنا صائمين على هذا الهدى النبوي كم من مشاكلنا الاجتماعية ستختفي سواء في بيوتنا مع أولادنا أو زوجاتنا أو مع جيراننا .... أو في محيطنا الاجتماعي كله .
ولكن كثيرا من الناس لا يراعي الجانب الخلقي المعنوي للصيام , ولا يلقي بالا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه الواردة في هذا الشأن ، وتجد الواحد من هؤلاء قد (برمج ) نفسه على أفكار معينة وهي خاطئة من أساسها وأبى إلا التصرف على أساسها في رمضان خاصة فيزعم مثلا أنه لا يطيق أحدا في الصيام , ويحذر أهله : إذا كنت صائما فلا يكلمني أحد وإلا سيتحملون نتيجة ذلك أو أن أخلاقي تضيق تضيق في الصيام فإياي فارهبون , وعلى أساس هذه الأفكار الخاطئة يتصرف مع كل أحد .....مع جيرانه .. مع زملائه في العمل , مع جمهور الناس إذا كان موظفا في مؤسسة خِدْميةٍ فتراه يصخب ويرفث ويعلل ذلك بــــــــــ( أنا صايم أنا صايم ) !!.
إن هذا وأمثاله لم يفقهوا حقيقة الصوم وأدب الصوم وأخلاق الصوم والتي يمكن لك أخي الكريم أن تلخصها في عبارة واحدة فتقول :
(( الصيام أخلاق ))
وكل عام أنتم بخير .