بسم الله الرحمن الرحيم
العبادة وعامل الزمن
لا أقصد العبادة بمعناها المحض أو المقتصر على أداء العبادات الظاهرة كالصلاة فرضا ونفلا والصيام والحج والذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المقصود هو (الحالة ) أعني حالة كون الإنسان عبدا من عباد الله يشعر بالخضوع لمولاه والرضوخ لأمره والرضى بقضائه .
وهذا المعنى يشمل العبادات المذكورة سابقا وغيرها من كل تصرفات الإنسان في حياته حتى المباحات منها .
أما عامل الزمن فالمقصود به ارتباط العبادة بكل أنواعها بزمن محدد بحيث يكون هذا الزمن المحدد هو الفاعل الحقيقي الباعث على القيام بها ، وليست نية العبد ولا إرادته الطوعية ، فيكون كمثل الجندي الذي أنهى خدمته العسكرية ولكنه ما زال على ذمة جيشه فإذا تم استدعاؤه لم يجد بدا من التنفيذ وإن لم يستدعه الجيش عد ذلك من الحظ السعيد .
ومن الأمثلة التي تقرب المعنى قبل الدخول في الموضوع مباشرة : الدعاء الذي هو مخ العبادة وروحها وارتباطه بالمصائب أو الرغائب أو غير ذلك عند كثير من الناس – كما سيأتي إن شاء الله -, ومنها أداء العبادات المحضة وتأثرها بالظروف الزمنية الطارئة سلبا وإيجابا ، ومنها صلة الرحم وتأثرها بأوقات محددة ، وغير ذلك .
فالدعاء من العبادة بمنزلة المخ من الجسد ولما كان الإنسان مخلوقا لعبادة الله كان من واجبه ألا يعطل المخ لكيلا تموت عبادته وتصير جسدا بلا حركة أوحركة بلا فائدة .
ولكن كثيرا من الناس لا يدعون الله تعالى إلا في أوقات الشدة العصيبة عندما تغلق في وجوههم جميع السبل إلا سبيل الله تعالى ، وفي القرآن الكريم أمثلة عديدة على هذا الصنف من الناس ، مثل هؤلاء المشركين - وليس ذنب أعظم من الشرك بالله - الذين ركبوا سفينة في عرض البحر حيث لا يرون من كل جانب إلا الموج يعلو كالجبل على امتداد الأبصار وهاجت الريح وماجت السفينة ومالت ومادت وعندما أيقنوا بالهلاك وتراءى لهم شبح الموت دعوا الله أن ينجيهم زاعمين أنه إن نجاهم آمنوا بوحدانيته وكانوا من الشاكرين فلما أجاب دعاءهم – وهو أعلم بهم – عادوا إلى الشرك والغي والظلم مرة أخرى!!
قال تعالى :(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) سورة يونس 22، 23.
فهؤلاء الناس لا يدعون ربهم طائعين مختارين ولكن عامل الزمن وفاعل الظروف الطارئة هو الذي يجبرهم على ذلك فهل هؤلاء عباد لله أم عبيد للزمن والموقف؟
وعلى المستوى الفردي إذا مس الإنسان ضر واشتد عليه ألم رفع كفي الضراعة إلى مولاه فلما استجاب له فخفف ألمه وكشف ضره عاد إلى سيرته الأولى كأن لم يكن شيء ، مع وعوده الكاذبة لربه – وهو به عليم – أنه إن شفاه ليفعلن وليفعلن ولن يعود ولن يعود و...............هلم جرا
قال تعالى (وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (الزمر:8) ألا يتضح أن عامل الزمن هو باعثه على الدعاء ولولا هذا الظرف الوقتي لنسي الله وما رفع إليه يديه ؟
ألا يشبه هذا ذلك الذي نسي إجابة أسئلة امتحان ما – وهو في لجنةالامتحان تذكر سهرات سهرها في معصية الله – والمعصية من أشد عوامل النسيان - فعاهد الله – وهو في اللجنة – لئن ذكرتني لأقضين ليلي قائما ونهاري صائما فلما ذكره وتلطف به – وهو به عليم – لم تمض عليه ليلة أو ليلتان حتى عاد لسهراته كالسيل الجارف فياحسرتاه على ما فرط في جنب الله .
ألا يشبه هذا من ابتلي بالمرض فعاهد الله العهد نفسه مثل صاحبنا السابق فلما شفاه الله واطمأن على صحته ارتد إلى ما كان عليه .
إن هؤلاء وأمثالهم ربطوا الدعاء بالزمن فجعلوه فاعلا ، ولم يجعلوه مفعولا فيه وإذا كان الزمن هو الحياة فإنهم لم يستفيدوا من حياتهم في المهمة التي خلقوا من أجلها وهي العبادة والقرب من الله في السراء والضراء.
ومن النماذج القرآنية في ذلك قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11) عن ابن عباس قال كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى اله عليه وآله وسلم فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا ما في ديننا هذا خير فأنزل الله على نبيه : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ....) تفسير ابن كثير ج3:ص210.
وموقف هؤلاء الأعراب يوضح ربطهم بين عبادة الله وحالهم الاقتصادية في عامهم فإن نزل المطر وأعشبت الأرض ورعت الغنم والأنعام وولدت تهيأ لهم أن هذا بسبب عبادتهم وقد أخطأوا لأن هذا يحدث للكفار أيضا وإن كان عامهم مجدبا لم ينزل فيه مطر ولم تعشوشب الأرض ولم تتكاثر الأنعام زعموا أن هذا بسبب إيمانهم وهم في ذلك مخطئون لأن هذا الابتلاء يحصل لأولياء الله أيضا بل وأنبيائه ومعنى هذا أن الراحة المادية والغنى ليس مرتبطا بالعبادة وإنما العبادة يجب أن تكون لذاتها أي أن تكون عبدا لأنك مخلوق للمعبود وعبوديتك له في كل حال من غنى وفقر وصحة ومرض ......إلخ .
يذكرني هذا بطرفة للعلامة الشيخ عبد الحميد كشك رحمة الله عليه حيث كان يشرح العلاقة بين الإيمان والرزق والابتلاء فذكر أن رجلا كان متحللا من عبادته لا يصلي إلا نادرا ومع ذلك فهو في وفرة من الرزق وبلهنية من العيش ، فدعاه بعض الصالحين إلى الالتزام والتوبة والعمل للآخرة كما يعمل للدنيا الفانية فهداه الله وتاب والتزم ولما التزم شاء الله تعالى أن يبتليه ليختبر إيمانه فأصبح يفقد كل يوم شيئا مما عنده وصار حزينا فبينما شاة صغيرة تطوف حوله وتزعجه في بيته إذ التفت إليها وقال هاتسكتي ولا أقوم أخبطك ركعتين)!!!!!
الحق أن مفهوم العبادة الصحيح لايرتبط بزمن ولا حال معين إنما يرتبط بإنسانية الإنسان ذلك المخلوق الذي صنعه الله ونفخ فيه من روحه وأمره أن يعبده لأنه هو الله خالقه ومالكه قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات 56، 57، 85) .
وهذا أمر قد يقع فيه السالكون العابدون ، ويوضح ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه وأرضاه ذلك بقوله :
( من علامات الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل). الحكم العطائية .
فهو يبين أن بعض العباد يكثر من الدعاء والرغبة في رحمة الله عند اجتهاده في الطاعة ولكن إذا زل زلة وعصى ربه استحيا أن يدعوه ويرجوه فكأنه لما أطاعه كان يدعو ( بعين جامدة ) -ومعذرة على التعبير فالمقصود إيضاح المعنى – مثل من يهدي لك هدية فإذا أراد منك شيئا سأل بصوت عال فهكذا هذا العابد وهو في ذلك مخطيء ويؤكد ذلك أنه لما عصى لم يدع الله وما ذلك إلا لإحساسه أنه لم يفعل لربه شيئا يستحق عليه أن يكافئه ونسي أن الله غني عن العالمين وأنه هو الله ربه سواء أطاعه أو عصاه وأنه الرحيم الحليم الذي يوسع أرزاق الكافرين فكيف بالمؤمنين .
روى البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله إنهم ليدعون له ولدا وإنه ليعافيهم ويرزقهم صحيح البخاري ج5/ص2262
فسبحان الله الحليم الكريم هو ربنا إن أطعنا وهو ربنا إن عصينا لا يقطع رزقه عنا ولا يغلق بابه دوننا فمهما تكن حالنا فمن واجبنا ألا نعبده عبادة موسمية وألا يكون دعاؤنا له حسب الحال فالدعاء في ذاته عبادة كلها خير .