بالقرآن أولا

من قضايا الدعوة إلى الله : حضور القرآن في الخطاب الوعظي المعاصر
من الملاحظ في الكثير الغالب مما يسمع ويشاهد في خطاباتنا الوعظية الآنية اعتماد الخطيب أو الواعظ على مادة وعظية موروثة من عشرات السنين لا تتغير بتغير الأيام كأن لم يتعاقب عليها الجديدان , هذا مع تغير الأحوال بتغير الزمان وظهور مشاكل جديدة تستدعي تجديد موضوعات الخطب المنبرية والمجالس الوعظية في المناسبات الدينية وغيرها من المناسبات الاجتماعية كالأفراح والجنائز وما يقاربها من مواقف تستدعي حضورا عاجلا للخطيب الداعية.
ومن طرائف ما سجله الأساتذة الكرام في هذا الصدد ما ذكره فضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في أحد كتبه أن خطيبا ممن يخطبون من دواوين الخطابة القديمة صعد المنبر وألقى خطبته التي يحفظها من الديوان وفي الختام دعا للسلطان العثماني أن يثبت الله ملكه ويديم عزه يقول الشيخ الغزالي رحمه الله : ولم يعلم هذا المسكين بأن ملك السلطان الذي يدعو له قد زال وتتبدد شذر مذر تتكالب عليه دول الغرب تكالب الأكلة على قصعتها . أو كما قال رحمه الله .
وليس المقصود من هذه الطرفة أن مستوى الخطاب الوعظي المعاصر قد تدنى إلى هذه الدرجة المضحكة , كلا , ولكن المقصود هو وقوف هذا الخطاب في دائرة معينة لا يبرحها وقد قُيِّدَ داخلها بالموروثات الوعظية المحفوظة التي ملَّتها الأسماع ومجَّتها الأنفس من كثرة تكرارها وعلى سبيل المثال مما يأخذه اللاحق عن السابق في مواعظ الجنائز التمركز حول ما يحدث داخل القبر للمتوفي وأن جثته ستصير مغنما شهيا للديدان في القبر الذي يناديه : أنا بيت الوحشة ... أنا بيت الغربة ... أنا بيت الدود ...وأين لسانك ما أسكتك ؟ ...وذهبوا وتركـــوك .. وفي التراب دفنــوك... .. إلى آخر هذه الأقوال التي لا تخرج من القبر ومما يحدث فيه مما لا علم به إلا لله تعالى وما حدثنا به الوحي القرآني والنبوي .
فهذه العبارات سمعتها منذ صغري في مثل هذه المناسبات وعشت ربع قرن منذ بدأت إدراك ما أسمع أسمعها هي هي في أغلب هذه المناسبات وكأن الإنسان لا يتغير , وكأن الجيل لا يرحل ويخلفه جيل بفكر مختلف وثقافة مختلفة ومشاكل جديدة تتطلب حاجات وعظية ذات لون مناسب .
وهناك أيضا بعض (التوابل) الموروثة التي تضاف إلى هذه الأحاديث لتلقى القبول عند العامة وتستدرُّ الآهات وتستخرج الصيحات مثل تعمد مد لفظ الجلالة( اللـــــه) في غير مناسبته , والجهر بلفظ الواحد الديـَّــــــان , وهذا الأسلوب قد يحتاج إليه الواعظ بقدر ما يحتاج إلى الملح في الطعام , فإذا كان بقدر مناسب كان ألذ وأشهى أما إذا زاد عن حده فقد انقلب إلى ضده , ومن يفعل ذلك مبالغا فيه فهو بالتأكيد لا يجد ما يقوله لأن الخطيب الجيد المطلع لديه دائما ما يقوله , لديه موضوع يريد أن يعرضه في سلسلة جذابة متصلة الحلقات لا يحب كثرة المقاطعات بمثل هذه العبارات التي تغازل العواطف على حساب العقول , وهي إن خدعت العامة فإن الكثرة الغالبة من طبقة المتعلمين لا يهتزون لها , ولا يهتمون غالبا بالإصغاء لمن اعتادوا منه على سماعها . هذه حقيقة .
هذه المشكلة لها أسباب كثيرة ومتشابكة منها الكسل الفكري الذي يعتري هذا الخطيب أو ذلك الواعظ ؛ حيث إنه قد فضل أن ينصرف ببدنه وعقله وعاطفته إلى طلب الرزق وسعة العيش وهذا ليس معيبا في ذاته ولكن المعيب هو ألا يجعل للدعوة إلى الله واستذكار الكتب نصيبا من وقته ولا يدخله في دائرة اهتمامه وإنا لله وإنا إليه راجعون .
ولهذا فإن هذا الحديث لا ينصرف إلى هذا اللون من الواعظين وإنما ينصرف إلى الواعظ الذي يهتم بقضية الدعوة إلى الله - لا سيما وأنها عمله ومصدر رزقه في الأساس – ويهدف إلى خدمة الإسلام باطلاعه وقراءاته وتنقيبه في الكتب غير أنه قد حوصر دون أن يشعر داخل جدران الموروث الوعظي القديم الذي يجب أن يتجدد ويعاد بناؤه من جديد ليصلح لمحاورة الجيل الحاضر .
والمشكلة كامنة في البعد عن القرآن الكريم ليس في تلاوته وإنما في قلة الاعتماد عليه كمصدر أساس للخطبة والوعظ وللحديث في أية مناسبة فالله تعالى نزل الكتب تبيانا لكل شيء قال تعالى ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: من الآية89)
وفي النموذج المذكور آنفا ( الحديث في مناسبة الموت ) تلحظ أيها القاريء الكريم أن مثل هذا الحديث قد خلا – في الغالب - من الاعتماد على القرآن الكريم - وإن استشهد به فبنسبة ضئيلة لا يبدو فيها القرآن هو الأساس وإنما تتلى الآية منه لمجرد الاستدلال فقط – فماذا على الواعظ لو اختار سورة من سور القرآن الكريم التي تتحدث عن الموت والبعث والحساب والجزاء وما يناسب المقام فأتقن تفسيرها من أي كتاب يعتمد عليه في تفسير كتاب الله مثل تفسير ابن كثير مثلا وهو مليء بالدرر النفيسة – ماذا عليه لو قرأ تفسير هذه السورة بتركيز وكانت معه زادا يستمد منه في مثل هذا الموقف ، فيبين للناس فضل هذه السورة وموضوعها الأساس والعناصر التي تدور حول هذا الموضوع ثم يبدأ في شرحها آية آية مستخرجا الدروس والعبر بما يفتح الله به عليه في مثل هذا المقام ؟
أليس في هذا تقدير من الخطيب للمجلس الوعظي الذي هو في الأصل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جلس نيابة عنه فيه ؟
أليس في هذا تقدير من الخطيب لعقلية جمهوره حيث حدثهم بما نزل إليهم من ربهم ولم يشرِّق بهم ويغرِّب محاولا التأثير على العواطف دون العقول ؟
ألن يكون في هذا تقدير من الجمهور لهذا الواعظ المجتهد الذي يقرأ كلام الله ويفسره ويشرحه بما يفيد ويغني ؟
مثال : سورة المطفيين.
وإليك أيها القاريء الكريم مثالا يوضح ما سبق – بإيجاز شديد -
بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم .
من السور التي أنزلها الله تعالى على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة سورة عظيمة توقظ القلوب وتهز المشاعر بما فيها من آيات بينات .
موضوعات السورة :
أولا : تتحدث هذه السورة الكريمة في مطلعها عن المطففين الذين يغشون الكيل والميزان ويخدعون الناس في الدنيا وتبين جزاءهم يوم يلقون الله قال تعالى :
((ويلٌ للمطففين الذين إذا اكتالوا علىالناس يستوفون وإذا كالوهم أو وّزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ))
ثانيا : تتحدث السورة عن الفجار وما ينتظرهم من الويل يوم القيامة قال تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ )
ثالثا : ثم يبين الله تعالى الصفحة المقابلة لصفحة هؤلاء الفجار وهي صفحة الأبرار وما لهم من ألوان النعيم عند الله والتي سنتحدث عنها بالتفصيل قال تعالى (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ َتعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ )
رابعا : وفي النهاية يصف الله عز وجل ما كان الأبرار يلقونه في الدنيا من استهزاء بالأبرار ويبين أن الغلبة في نهاية الأمر وأن الفوز من نصيب الأبرار لا محالة قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ ا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )
هذه هى المحاور لأربعة التي تدور حولها أحداث السورة الكريمة أيها المستمع الكريم فهيا بنا لنعيش مع السورة الكريمة آية آية لنستنبط منها الدروس والعبر ....
( ويل للمطففين ) ما الويل ومن هم المطففون ؟ الويل هو ..............إلخ .
ولله دره .. كم سيكون في حديثه من ثراء وروعة عندما يبين معاني المفردات ويوضح أسباب النزول ويستخرج العبر ويقارن بالواقع ويحاور العقول ويناغي العواطف ويجذب المستمع بتنويع طبقات الصوت وفقا للمعني , وبتوظيف إشارات الوجه واليد في تأكيده وتثبيته ... إلخ
ــــــــــــــ
وهذه السورة الكريمة نموذج فقط لما يستحب أن يكون عليه الحديث الوعظي وفي القرآن المكي سور كثيرة تنحو هذا المنحي وتحتاج فقط لمن يقرأ بتدبر وتفكر ، ومن الكتب التي تعين على فهم السورة عن طريق بيان أهدافها الرئيسة ومحاورها الأساسية كتاب في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب رحمه الله وكتب صفوة التفاسير للشيخ محمد على الصابوني ففي بداية كل سورة يجد القاريء هذا البيان المعين على الفهم والتدبر .
ألا ترى معي أيها الأخ الفاضل أن مثل هذا الحديث إذا سمعته في مناسبة جنازة استفاد منه المستمعون أفضل مما يستفيدونه من الحديث عن وحشة القبر وثعابينه وأفاعيه وديدانه وهوامه وظلمته مما حفظته الأسماع وتحصنت منه القلوب فمن كثرة تكراره كأن الشياطين قد تفاعلت معه وكونت أجساما مضادة تكيف القلب لكي لا يهتز بهذا الدواء المكرر ! ولله در أبي الطيب المتنبي حيث قال :
رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال .
ألا ترى أخي الفاضل أننا في حاجة ملحة للقرآن في خطبنا ووعظنا ؟ ألا ترى أن تجديد الخطبة والموعظة يكمن في المصحف الذي نحمله في قلوبنا وجيوبنا ومع هذا قل اعتمادنا عليه والتفاتنا إليه ؟وما أحلاه من مجلس وما أجله من حديث ذلك الذي يكون كلام الله محوره ولبه وأساسه .
ألا ترى أن ثقافتنا الوعظية تحتاج إلى القرآن كحاجة الأحياء إلى الماء الذي جعل الله تعالى منه كل شيء حي ؟